سلال الجوع:مقدمات ودلالات ونتائج - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


سلال الجوع: الخيارات في صراع الارادات
اضراب اب 2004
مقدمات ودلالات ونتائج
مراجعة سريعة
بشار طربيه

"الحرية تقتضي الموقف وقد تعوّد بعض الناس في مجتمعنا على اتخاذ المواقف المألوفة والتقليدية والمعروفة وهي التي نسميها الثوابت التي لا خروج عنها، صحيح أن هناك ثوابت يجب المحافظة عليها ولكن ماذا عن القضايا التي يمكن أن تتغير ويجب أن تتغير!! لماذا يتم تبنيها والتعاطي معها على أنها مواقف مبدئية؟ انه الخوف و الجبن او المصلحة التي تستدعي اتخاذ مواقف ثابتة، لقضايا متغيرة، وثمة ثوابت ما هي إلا أوهام في أذهان الناس، تعودوا على سماعها بشكل معين فأصبحت بالنسبة لهم مقدسات او"تابو" لا يجرؤ احد على تغييرها، لان تغييرها سيؤدي إلى حصول نتائج مجهولة."

سيطان الولي، من رسالة "اختي الغالية" في 2\6\2005 من سجن الجلبوع

تتميز الغالبية العظمى من انتاج أدب السجون المكتوب للجمهور خارج السجون، سواءا بصورة أدبية أو بحثية، بأنها تعبر عن شهادات شخصية أو جماعية للحياة في ظل الأسر. وغالبا ما تتميز هذه الأعمال بالوصفية وتركز على العلاقة بين الأسير والسطلة القامعة أو التجارب الانسانية للأسرى. و للحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الاسرائيلي تاريخ غني بالادبيات التي أثرت في الفعل والتعبئة السياسيين في الشارع الفلسطيني والجولاني والعربي على مدار سنين. سـلال الجـوع للأسير المحرر سيطان الولي يحتل بدون شك موقعا رائدا بين هذه الأدبيات. فهو يتميز بقوته التحليلية وممارسته غير المعتادة للنقد الذاتي للحركة السجينة. وبالتالي فهو اضافة نوعية لأرشيف مرحلة الاحتلال الذي ستعود اليه أجيال المستقبل لتؤرخ ماضيها كي تفهم حاضرها.
الجزء الأول من الدراسة هو تشخيص عام لواقع الحركة الاسيرة (29-32)، تنطلق من رأي الكاتب بأن اضراب آب 2004 "بنتائجه الفاشلة دلل وبشكل قاطع على انهيار المنظومة الاعتقالية القديمة، التي نشأت في بداية الثمانينات (27)". فمنذ أواسط التسعينات أخذت الاضرابات في السجون طابعا سياسيا وليس مطلبيا. فيما خضع جسم الحركة الاسيرة لتحولات هائلة على اعقاب الافراج عن عدد كبير من الاسرى القدامىبعد أوسلو ودخول الاف جدد بدون تجارب وكفاءات بعد انتفاضة الاقصى(30). ولم تعر الأقلية المتبقية من الاسرى القدامى أهمية كافية "للبنى التنظيمية والاعتقالية.... وعند قدوم الاسرى الجدد تباعا وعلى مدار أربع سنوات، سادت الفوضى بين المعتقلين من التنظيم الواحد، بتفاوت نسبي بين تنظيم وآخر، وبين التنظيمات المختلفة، لانعدام النظام العام الاعتقالي ولضعف النظام الداخلي التنظيمي...." (31).
على ضوء هذه التحولات والضعف البادي في بنية الحركة الاسيرة يستعرض الكتاب استغلال سلطات السجون للواقع الجديد واستحداثها لخطة جديدة تهدف الى سحق ليس البنية التنظيمية للحركة الاسيرة فحسب، بل القضاء على كافة انجازاتها التاريخية وروحية المقاومة التي تتميز بها (34-38).
وتستعرض الدراسة الواقع العام المحيط بالحركة الأسيرة الذي أثر لاحقا على مجريات اضراب آب 2004. فلسطينيا، تميز الواقع بالتشرذم السياسي والخلافات بين الفصائل (39-41) واسرائيليا اشتد التطرف السياسي الاسرائيلي تجاه القضية الفلسطينية مع انتخاب شارون عام 2001 (41-42). جولانيا، شكل الجولان والاسرى الجولانيين عجلة تواصل بين الحركة الفلسطينية الاسيرة وعمقها عربي (34-44). أما فلسطينيو 1948، فان واقعهم السياسية والقانوني المختلف وفر أدوات مميزة كمعرفة اللغة والقوانين والاعلام والنظام البرلماني الاسرائيلي التي يمكن استغلالها لدعم قضية الاسرى (44-47).
القسم الثاني من الدراسة يناقش تفصيليات البنية الهيكلية للحركة الأسيرة على مستويي الفصيل والسجن وآليات التنسيق واتخاذ القرار داخل وبين السجون، ثم تحليل لأسباب فشل الاضراب والتي من أهمها: خطة الاضراب لم تأخذ بعين الاعتبار "المتغيرات الحاصلة في قوام وبنية الحركة الأسيرة" (60) منذ أواخر التسعينات من حيث البنيات التنظيمية الداخلية للفصائل وتأزم العلاقات وامكانيات التنسيق الملتزم فيما بينها وغياب الديمقراطية في اتخاذ القرارات وغيرها. وثانيا انعدام الثقة والمنافسة بين سجون الشمال والجنوب (61-62) وثالثا حصر قرار الاضراب بمركزية رفضت تقبل الاقتراحات والنقد (62-63). وأما باقي الأسباب فيمكن عزيها باختصار للضعف في التجربة والتنظيم والقدرة التفاوضية مع ادارات السجون والتسرع في القرارات والسذاجة في التعامل مع ادارات السجون وعدم توفر رؤية واضحة لأهداف ومطالب الاضراب والاولويات بين هذه المطالب، وعدم توفر خطة اعلامية ناضجة ومتكاملة لوضع الاضراب في مركز الاحداث الجارية في فلسطين والمنطقة (64-81).
ولعل أهم جزء في هذا الفصل هو مناقشة فكرة الممارسة الديمقراطية داخل السجون حيث يشير الكاتب الى أنه لا غنى عن الفهم الجماعي والقرار الجماعي "للحفاضة على سلامة جسم الحركة الأسيرة" (79) وأنه حتى أوساط التسعينات كانت الديمقراطية في العلاقات داخل معظم التنظيمات وفيما بينها هي القاعدة وليس الاستثناء بغض النظر عن التناقضات والنقوصات التي حكمت هذه العلاقات الديمقراطية. بمعنى آخر كانت العلاقات الديمقراطية جزء من نظام بنيوي قائم وفاعل على مستو الفصيل وبين الفصائل. وعندما ضعف هذا النظام للأسباب المذكورة أعلاه بعد أوسلو وأوشك على الانهيار، ضعفت الديمقراطية وساد التفرد بالقرار وهيمنة الفصائل الكبرى والتفرد الشخصي.
وفي الجزء الأخير من القسم الثاني تحت عنوان "بدء الاضراب وتطور سير الأحداث" يناقش المؤلف تأثير كل ما سبق على سير الاضراب. وفي حين يوثق هذا الفصل الحرب المادية والنفسية العنيفة التي شنتها ادارة السجون ضد المضربين، غير أنه يظهر كيف أن التأزم الهيكلي والعلاقاتي والسياسي والنفسي للحركة الأسيرة سهل في نجاح خطة ادارة السجون وتفشيل الاضراب. ولم يتغافل هذا الفصل عن اظهار الطاقات الكامنة لدى الحركة الاسيرة على صعيد فردي وكيف أن اصرار وعنفوان الأسرى الغريزي مكن من استمرار الاضراب وتفشيل الكثير من الخطوات التي مارستها ادارة السجون في هذا السجن أو ذاك بالرغم من جوانب الضعف الموضوعية والذاتية للحركة الأسيرة التي أدت في التحليل الأخير الى فشل الاضراب (82-125).
القسم الثالث من الكتاب يركز على قراءة ونقاش تفصيلي لأسباب فشل الاضراب ونتائج هذا الفشل. ويظهر التحليل هنا جدلية العلاقة بين التركيبة البنيوية للحركة الأسيرة بمجملها ومركباتها من جهة وما انتجته من قرار بالاضراب وتصورات لكيفية تنفيذ هذا القرار وتفصيليات التحضير له وتنفيذه من جهة ثانية. في هذه العلاقة الجدلية، نرى كيف أن الضعف البنيوى والتنظيمي انتجا ضعفا في التصور والتجهيز والتحضير للاضراب، وعندما فشل الاضراب تعزز الضعف البنيوي والتنظيمي للحرة الأسيرة ولو مؤقتا.
وفي الوقت ذاته، وفي حين عبرت تجربة الاضراب "عن فشل وانهيار المنظومة الاعتقالية القديمة" تبقى "الحركة الاسيرة جسم حي لا يلفظ أنفاسه، يعيش التجربة، يؤثر بها وتؤثر به" (143). ومجتمع الاسرى في المعتقلات كأي مجتمع يخضع لأزمات ويتجدد من خلال هذه الأزمات. أما قرار الاضراب بحد ذاته، وبغض النظر عن نتائجه فهو يعكس حقيقة أن الحركة الأسيرة لم تفقد روح الرفض والمقاومة لواقع المعتقل الظالم. وبالرغم من سوء التحضير، فقد حقق الاضراب نجاحا اعلاميا مقبولا ودفع بقضية الاسرى الى موقع متقدم في أولويات لدى الاعلام العربي على الأقل. أخيرا، وربما كان هذا أهم منجزات الاضراب على ضوء تغير تركيبة الحركة الاسيرة من أغلبية من السجناء المتمرسين وذوي الخبرة الى أغلبية في مطلع القرن الواحد والعشرين من السجناء الجدد كان فشل الاضراب تجربة أغنت معرفيا وتنظيميا الاسرى الذين خاضوه وحضرتهم للمعارك القادمة مع ادارات السجون.(143-147)
أما الجزء الأخير من الكتاب فهو خلاصة وطرح للمهام المستقبلية من وجهة نظر الكاتب للارتقاء بالحالة التنظيمية للحركة الأسيرة من خلال اعادة بناء دستورية توحد العلاقة تنظيميا واجتماعيا وثقافية بين كافة المعتقلات، واجراء تغييرات شبيهة على صعيدي المعتقل والتنظيم الواحد واعادة التأسيس للعلاقة بين الأسرى والخارج.

بدون شك، سلال الجوع يشكل مصدرا مهما للباحثين في ادبيات السجون. لكن أهميته تتعدى عن كونه مصدرا معلوماتيا تفصيليا يدرس حدثا مفصليا في تاريخ الحركة الأسيرة في المعتقلات الاسرائيلية. يقول المؤرخ الفرنسي ميشيل فوكو أن السلطة المهيمنة هي التي تحدد صياغة القصة التاريخية السائدة لأنها تؤرشف تاريخها بذاتها. ومفهوم السلطة هنا يتعدى السلطة السياسية ليشمل النخب الاجتماعية والاكاديمية والثقافية وغيرها، وهذه جميعا هي التي تصوغ خطاب السلطة. وفي حال فلسطين والجولان الخاضعين لاحتلال استيطاني إثني، يصبح توثيق وأرشفة تجربة المضطهدين وأنسنتهم عملا كفاحيا من الدرجة الاولى. سلال الجوع ينجزوبجدارة هذه المهمة.
الانجاز الثاني لهذه الدراسة من وجهة نظري هو النقد الذي تقدمه الدراسة للحركة الأسيرة، وهو نقد ذاتي كونه صدر عن أسير هو جزء من هذه الحركة. فالدراسة توضف منهجية تفكيكية لحدث مفصلي في تاريخ الحركة الأسيرة، تستشرف من خلالها أسباب فشل الحدث ليس فقط في سياق زمانه ومكانه العينيين وانما في سياق تاريخ الحركة الأسيرة والظروف المحيطة بها من خارج السجون. وبغض النظر اذا اعترض قارئ سلال الجوع على دقة بعض التحليلات أو حتى صحتها فان توضيفها للتحليل التفكيكي الناقد للذات يتجاوز بأهميته الخطاب الايديولوجي الذي ينزع دائما الى تبرئة الذات وتحميل مسؤولية أي فشل على آخرغريب.
تبقى هناك ملاحضات وتساءلات بسيطة يمكن للاجابات عليها أن تعمق فهمنا للحركة الاسيرة وواقع الاحتلال بشل عام:
أولا. توظف الدراسة نقدا تفكيكيا لحالة التدهور التي مرت بها الحركة الأسيرة بعد الثمانيات وتعتبر تلك المرحلة، أي الثمانينات، العصر الذهبي لحياة الحركة الاسيرة. وعلى الرغم من أن الدراسة تعترف بقصورات في الممارسة الديمقراطية مثلا في تلك المرحلة فانها لا توظف نفس القوة التحليلية لتلك المرحلة. لكن، بناءا على معلوماتي المحدودة، والتي يمكن أن تكون خاطئة، فان العلاقة بين الفصائل داخل السجون كانت دائما محكومة بهيمنة الفصيل الأكبر وهو حركة فتح، وتدخلت في العلاقات بينها اعتبارات حجم الفصيل ومواقفه من الفصيل الأكبر وحدة الحوارات السياسية في مراحل مختلفة حول الحل السياسي للقضية الفلسطينية، وغيرها من اعتبارات. اذا كان هذا التقييم صحيح، فمن الصعب الفصل بين هذا التاريخ والضعف الذي حل بالحركة الأسيرة في مرحلة التسعينات، حيث شهدت هذه المرحلة فرزا سياسيا واضحا بين الفصائل بناءا على موقفها من مفاوضات أوسلو.
ثانيا، هناك ارث تاريخي منذ تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية والمجلس الوطني الفلسطيني من عدم ممارسة الديمقراطية حيث هيمنت حركة فتح على المجلس وقراراته من خلال أكثرية غير منتخبة. هل كان لهذا الارث تأثير على تاريخ العلاقات الديمقراطية داخل السجون؟
ثالثا، هناك توازي زمني بين بدء تدهور حال الحركة الأسيرة وانتهاء الانتفاضة الاولى. ورافق هذين الحدثين ظاهرة انحسار الحركات الجماهيرية في معظم ما يسمى "بالعالم الثالث". هل أدى انحسار العمل الجماهيري الى تحول في نوعية الأسرى الجدد وهل كانت له تداعيات ذات علاقة بفشل اضراب آب 2004.
رابعا، في ظل التشرذم السياسي الذي وصل الى حدد الاقتتال بين بعض الفصائل، كيف يمكن حاليا أو في المستقبل المنظور اعادة بناء الحركة الاسيرة على اسس متينة كما يطرح الملحق في نهاية الدراسة؟